يناقش الدكتور مازن عرفة في كتابه الجديد "تراجيديا الثقافة العربية”، الصادر عن دار التكوين في سوريا إشكالية المشهد الثقافي العربي بشكل علمي بعيد عن الرؤية الشخصية الذاتية، فقد اعتمد على الأسس العلمية والنظرية التي وضعها في كتابه السابق "سحر الكتاب وفتنة الصورة: من الثقافة النصية إلى سلطة اللامرئي”، الصادر عن دار التكوين 2007، مستعيناً بمناهج بحث علمية مستمدة من تخصصه في علم الكتاب كأداة اتصال جماعي.
يتخذ المؤلف من أزمة القراءة والكتاب في العالم العربي منطلقاً للبحث طارحاً تساؤلات عديدة عن أزمة القراءة وعن التراجع الحاد للقراءة في العالم العربي مع إطلالة القرن الحادي والعشرين بخلاف ما كان عليه الأمر في النصف الثاني من القرن العشرين؟
ينفي الباحث السؤال التقليدي العام: لماذا العالم العربي لم يعد يقرأ؟ ويؤكد بصيغة الجديدة إن عالمنا العربي ما يزال يقرأ ولكن ليس كما كان يفعل سابقاً، وفي الوقت ذاته لم يجزم أن المجتمعات العربية كانت تقرأ بحيوية في السابق معتبراً أنها رؤية نسبية رمزية.
ويشير المؤلف إلى أن القراءة كظاهرة وممارسة لا تنفصل عن السياقات الثقافية التي تنتجها البنى الاجتماعية في اشتراطاتها التاريخية وخاصة الارتباط بالتحولات السياسية والاقتصادية والتطور العلمي والإنجازات التقنية، فمن يمارس فعل القراءة هو الفرد الذي يشكل جزءاً من البنية الاجتماعية، ويتفاعل بعلاقات جدلية متعددة مع مكونات الداخل وعناصر من الخارج. هنا تتحدد القراءة على المستوى الاجتماعي في إطار ما يفكر به الفرد وما يمارسه على أرض الواقع من خلال انتمائه لجماعة محددة بوصفها أحد أشكال التلقي التواصلي الفردي والجماعي الذي ينعكس أفعالاً، إضافة إلى الاحتكاك المباشر بالبيئة الطبيعية والاجتماعية التي تمنحه تطوير قدراته وتفكيره المنظم والمنهجي لبناء منظومته المعرفية. لكن في المقابل هناك مظاهر أخرى لأزمة القراءة وتساؤلات تطال الخريجين الأكاديميين الذين يتبأوون المناصب الرسمية الحساسة ويضعون السياسات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والثقافية، الذين توقفوا عن فعل القراءة الذي يعتبر مصدراً أساسياً للمعلومات.
تطرق الدكتور عرفة أيضاً إلى انعكاس أزمة القراءة على دور النشر العربية، وارتباط إشكالية القراءة بأزمة المشهد الثقافي العام بدءاً بارتياد المسرح ودور السينما والمعارض الفنية وغيرها، وانتهاء بمسؤولية السياسات الثقافية الوطنية الغائبة والضعيفة وأثرها في توليد الأزمات الثقافية المستمرة، دون أن يغفل ذكر المرحلة الانتقالية بين العصر الورقي والعصر الإلكتروني، أو ما عرفناه لاحقاً (ثورة الاتصالات والمعلومات) التي اعتبرها المترفون الجدد أو المخمليون الجدد (كما سماهم الكاتب) السبب في تراجع القراءة بسبب سيطرة المنظومات السمعية والبصرية وسطوتها في عصر المعلوماتية والاتصالات، وإزاحتها حسب رؤيتهم بشكل كامل للنص الورقي المقروء. لكنه يرى أن توقعات التكنوقراط المعلوماتي غير صحيحة لا سيما أن النشر الورقي أخذ ينشط مستفيداً من قوة وقدرات الوسائط المعلوماتية والاتصالات، إضافة إلى أن هناك قطاعاً واسعاً وعريضاً من أفراد المجتمعات في العالم كله يجد متعة في التعامل مع الكتاب الورقي، فالكتاب الورقي ما يزال أساس العملية التعليمية، كما لا يمكننا إغفال الأهمية التاريخية للتوثيق الورقي لكل مظاهر الحياة الإنسانية ونشاطاتها في كل الحقب بجميع أشكالها الاجتماعية والإبداعية، وكامتداد لهذه المسألة التاريخية ما زالت الوثائق الرسمية الورقية تسيطر نسبياً على التعاملات الرسمية والاقتصادية.
ويؤكد الكاتب أن الوسائط المعلوماتية الحديثة بأشكالها الحالية لم تُزح حتى الآن الكتاب الورقي أو الوثائق الرسمية، مشيراً إلى أن الأزمات الاقتصادية التي عصفت، وما تزال، بالعالم العربي، وارتباطها بثقافة الفساد وثقافة الاستهلاك، سبب مهم من أسباب إحجام القارئ عن اقتناء الكتاب أو ارتياد دور السينما وغير ذلك من أنشطة، فالفقر والغلاء باتا مظهراً طبيعيا في المجتمعات العربية، ويواجه الفرد يومياً ضغط المتطلبات والاحتياجات الضرورية إلى حد إهدار كرامته الإنسانية خلال سعيه لتأمينها. إن هذا السعي القلق لدى الأفراد من أجل تأمين احتياجات الحياة الأساسية بالطبع يسرّ الأنظمة التي تخاف شعوبها لأن هذا البحث يستنزف القدرات والطاقات الجسدية والذهنية لدى هذه الشعوب، ولا يترك لها وقتاً للتفكير في السياسة والثقافة أو التغيير الاجتماعي، ولا يهم الأنظمة إن اختفت القراءة أو الثقافة عموماً.
انتقد المؤلف المشاريع الثورية والتيارات الليبرالية والدينية على اختلافها وحملها المسؤولية سواء في الدول التي تبنت النظام الجمهوري بشكلياته الصورية أو الدول النفطية المحافظة، مشيراً إلى ثقافة الفساد التي سادت نتيجة فساد السلطات الثورية وبطانتها ودوائرها، الأمر الذي جعل البلدان العربية تفقد الألق الإيديولوجي لمشاريعها التحررية والنهضوية وأوصلها إلى طريق مسدود فاستنفدت فرصها. وأصبحت ثقافة الفساد السمة المرافقة لظواهر التخلخلات والانهيارات الثورية وتفشت معها أيضاً مفاهيم الانتهازية الفردية وانهارت المنظومة الأخلاقية.
عرج الكتاب أيضاً على تبعية الأنظمة للتحولات العولمية، وعلى وضع العالم العربي أمام النظام ما بعد الرأسمالي في عصر العولمة، موضحاً كيف ظهرت الطبقات الوسطى والفقيرة بشكل معاصر وبرزت في الفعل الثقافي بعد أن كان المشتغلون في مجالات الفكر والآداب والعلوم والفنون من الطبقات الأرستقراطية التي كانت تتمتع بفرص أكبر في التعلم وتتمتع برفاهية ثقافية، إذ صعد مثقفو تلك الطبقات منذ بدايات القرن التاسع عشر بعد معاناة طويلة مع البؤس والحرمان وعدم القدرة على التعبير عن ذاتهم ومصالحهم في أي إطار سياسي أو اجتماعي، سواء كانت هذه الفئات قادمة من فقر المدن الخاضع للاستغلال الرأسمالي، أو الريف المهمش المضطهد بالعبودية والإقطاع والتمييز الديني والطائفي، لكن في إطار وعي وطني عام بالأزمات التي يعيشها العالم العربي والمخاطر التي تهدد شعوبه من جراء التدخلات الغربية المستمرة ومن وجود الكيان الصهيوني، نجد أن التحرر الاجتماعي والاقتصادي تلازم مع التحرر الوطني نتيجة الشروط التاريخية السائدة آنذاك، والتي حتمت تكاتف الطبقات الفقيرة مع الطبقات المتوسطة وجعلتها تبحث عن أشكال التحرر، وكانت النتيجة ازدهار الدراسات الفكرية وتمايز النتاج الإبداعي الأدبي. ولا يمكن أن نتجاهل وقتها القمع الفكري الذي كان رديف القمع المادي لدى السلطات المستبدة، غير أن انتعاش الطبقات الوسطى في العالم العربي لم يدم طويلا وعادت لتسقط.
بعد أن استعرض عرفة العلاقات التاريخية بين الطبقات الاجتماعية والبنى الثقافية اعتبر أن سبب أزمة المشهد الثقافي هي التيارات الإسلامية السياسية والشعبوية التي كانت في الظل وانتقلت إلى السيطرة على الشارع موضحاً خريطة الصراعات السياسية في العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، ومن ثم انتشار المد الديني على أرضية إخفاقات المشاريع الثورية، إلى جانب الحركات الإسلامية التي انتهت إلى تيارين رئيسيين، فقد لجأت الأنظمة الثورية بشكل رئيسي إلى إحياء "فقيه السلطان" الخاص بها والذي أصبح الممثل الرسمي للإسلام، فبعد محاربة شرسة للتيارات الدينية من قِبل الأنظمة الثورية، عادت إلى إحياء فقيه السلطان لاشتداد حاجتها إليه بعد فشل أدواتها القمعية، واستخدمته كإسلام رسمي "سني" سائد تقليدي يبرر ممارسات السلطة من ناحية ويؤكد الاستعراضية الطقوسية الشكلية للمسؤولين الرسميين في المناسبات الدينية أمام وسائل الإعلام بهدف إظهار السيطرة على الشارع الإسلامي، ليبرز ويتشكل "المشروع الوهابي السلفي السعودي" من خلال التزاوج التاريخي بين السلطة الدينية الوهابية السلفية والسلطة السياسية العشائرية. وقد بدأ المشروع الوهابي زحفه نحو العالم العربي، وبشكل أدق نحو العالم الإسلامي، مستخدماً السيولة المالية الهائلة القادمة من الطفرة النفطية المفاجئة في سبعينيات القرن الماضي مستغلاً حالة انكسار المشاريع الثورية وخيبات الأمل لتي خلفتها في المجتمعات العربية، وبرز مقابلاً له في الثمانينات المشروع النقيض والمعارض الأقوى" المشروع الشيعي الإيراني" الذي توصل إلى إقامة دولته الدينية في إيران من خلال سيطرة رجال الدين عليها بالكامل باسم "ولاية الفقيه" لتبدأ مرحلة جديدة ويبدأ التصادم من أجل الدخول للدول العربية.
يتحدث الكاتب أيضاً عن دور الرأسمال النفطي الذي استخدم المشاريع الدينية كأداة لخلخلة المشهد الثقافي العربي وخلخلة البنى الاجتماعية في البلدان الثورية، بعد غيابه التاريخي في دول البنى العشائرية المغلفة أصلاً بالمشاريع الدينية، حيث بدأ اجتياح رأس المال النفطي الخليجي لوسائل الإعلام العربية، وقد ترافق هذا مع المحطات الفضائية التلفزيونية التي امتلكها المشروع الشيعي الإيراني كأداة جديدة، الأمر الذي أدى بالضرورة إلى انتعاش الكتاب الديني الإسلامي المتشدد الذي يدعم السلفية الوهابية والأصولية السياسية وفي المقابل يظهر العداء للفلسفة ومختلف الآداب والفنون. ولا يمكن إغفال ازدياد طباعة الكتب الدينية وازدياد عدد التفاسير حسب التوجه الديني، ورخص أسعار الكتب ذات الفحوى الديني مقابل باقي أنواع الكتب، وانتشار الكتب المقدسة التي كانت توزع بشكل مجاني بقصد التفاخر في مناسبات عديدة رسمية أو خاصة.
في القسم ما قبل الأخير من الكتاب يورد المؤلف أسباب أزمة الثقافة في العالم العربي ليبين للقارئ كيف اجتاحت ثقافة الاستهلاك عالمنا من خلال تحولات العولمة التي كسرت الحدود السياسية والجغرافية والثقافية وبسطت سيطرتها من خلال توجهين متكاملين: "التدجين الثقافي والقوة الاقتصادية" مما جعل ثقافة الاستهلاك أداة السيطرة الأساسية، فمنذ نهاية القرن الماضي بدأ العالم العربي يستورد نوعاً مشوهاً من الثقافة، طغت على نشاطاته وفاعلية أفراد مجتمعه، انسابت بسهولة في حياة المجتمعات الفقيرة مرتبطة بالإثارة السطحية لغرائزه الحسية وقادته نحو الانهيار الروحي والمادي، من خلال السلع الجديدة، والترويج الوهمي للسلعة الكمالية، والوكالات الغربية والعالمية، التي اخترقت السوق المحلية بحجة الانفتاح الاقتصادي وابتزت مدخرات الفرد. وازدادت خطورة ثقافة الاستهلاك بشكلها المغلف من الوجبات الجاهزة والسريعة والمشروبات الغازية التي أعدت لأفراد المجتمعات الصناعية بشكل منضبط لأن أوقات العمل تستهلكهم، لكنها لا تتناسب مع مجتمعات كسولة تلتهمها وهي مسترخية، و تنخفض فيها نسبة عمل المرأة وتفتقد للتنظيم وإدارة الوقت. كما لا يمكن تجاهل السيل الكثيف من البرامج التلفزيونية التي تعرضها مئات المحطات الفضائية، وبدلا من أن تكون الصورة الثابتة هي التي تغلف السلعة، تحولت الصورة إلى سلعة بمساعدة المؤثرات السمعية والبصرية والإلكترونية التي تزيد من حدة إثارتها فنجدها حرضت الأفراد وأيقظت غرائزهم وحولتهم إلى متلقي ينتظر الوجبات البصرية التي تعد له، سواء كانت رومانسية أو برامج لتأجيج الأحقاد الدنيية والطائفية.
و بعد الحديث عن البرامج التلفزيونية من وجهة نظر ثقافية دخل الكاتب في الإطار الواسع لمفهوم الثقافة الأنتربولوجي ليؤكد وقوع المشهد الثقافي العربي في جانب كبير منه تحت تأثير الثقافة الاستهلاكية والسقوط في فخها، إذ إنها تعدت التلفزيون بسطوتها حسب رؤيته ووصلت إلى أدوات الاتصال الاجتماعي الأخرى وعلى رأسها القراءة والكتاب، الذي تأثر بدوره بالثقافة الاستهلاكية وتحول إلى منبع لها مغذياً اتجاهات سطحية تتعارض مع أهدافه الثقافية كأداة اتصال اجتماعي ذات تاريخ حضاري تراكمي، إذ اتجه بقوة متجددة نحو حالات تعويضية باحثا عن هوية جديدة تناسب فوران المد الديني، فظهر الكتاب الديني الاستهلاكي، وكتب الغيبيات والشعوذة، ومع انتشار القنوات الجنسية بدأت تظهر الكتب الجنسية التي استغلت الكبت بغطاء ديني أحياناً بحجة التعليم والمواعظ الأخلاقية في تفاصيل العلاقة الجنسية وأوضاع الجماع والمداعبة، المسموح والممنوع شرعاً وأحاديث عن مقويات الباه وحكايات السلف الصالح وإرشادات لطرد الجن والشياطين من حضرة حالة الجماع وغير ذلك، حتى انتعشت كتب الرصيف والغريزة على مداخل الجامعات وأكشاك ضمت بين هذا النوع الكتب البوليسية والجاسوسية والنكت والأعشاب حتى أن هذه النوعية من الكتب بتنا نشاهدها في المولات الكبيرة في رفوف لا تحتوي إلا هذا النوع أو كتب التخلص من الوزن.
أخيرا ربط الباحث تخلخل صورة المثقف في المجتمعات العربية بانهيار المفاهيم والقيم، وفي إطار الانهيارات الكبرى تحول الكثير من المثقفين الثوريين مع بداية القرن الحالي إلى البنى التقليدية القديمة، وأخذوا يدافعون عن واقعها القائم تحت إغراء المال كمستشارين ثقافيين مستخدمين قدراتهم الفكرية والأدبية والفنية للتبشير بسلطان العسكر والشيخ والقبيلة وفقيه الطائفة ومجدوهم حتى تحول السلطان إلى إصلاحي ديمقراطي، وصار الشيخ تكنوقراطياً معاصراً والفقيه عالماً أكاديمياً من خلال ما روجوه لهم من مفاهيم ليبرالية تنسجم مع روح العصر. وتحول الكتاب المعرفي إلى كتاب موجه مؤدلج وفق ما تراه السلطات الحاكمة.
وفي النهاية لا يمكن الحديث عن أزمة المشهد الثقافي في العالم العربي دون العودة إلى جذور هذه الإشكالية التي نشأت على أرضيتها، فالأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تركت آثارها العميقة على جميع مظاهر الحياة العربية، بما فيها الروحية والثقافية.
حاول الكاتب أن يقدم بحثاً شاملاً لكل النقاط التي تتعلق بإشكالية المشهد الثقافي في العالم العربي، لكن دراسته كانت تتسم في بعض النقاط بالتعميم، فالظروف في بعض الدول العربية تختلف عن الظروف في بعضها الآخر، ولا يمكن أن نقسم دول العالم العربي إلى قسمين فقط من ناحية المشهد الثقافي، خاصة أن الكتاب لم يتطرق إلى المغرب العربي. ولا يمكن إغفال حركة النهضة الحديثة في تونس أو غيرها بالرغم من أن اللغة العربية فقدت بريقها عند أهل الثقافة والشعب عموماً، لكن مع ذلك ورغم سيطرة اللغة الفرنسية وتأثير الاستعمار نجد أن عواصم المغرب العربي تفوقت على نفسها وعلى بعض الدول العربية في المشهد الثقافي عموماً لا سيما في المسرح والسينما، والدراسات الفلسفية والفكرية، كما لا يمكننا اعتبار الأسباب التي أوردها الكاتب هي الأسباب الوحيدة لأزمة القراءة وتقبل الكتاب لدى الأجيال المتلاحقة خاصة ثقافة الاستهلاك، ذلك أن المشكلة أعمق بكثير، وهي تكمن في تعويد وتدريب الجماهير على القراءة، ووضع أسس حقيقية وفاعلة تحفز رغبة الفرد تجاه الكتاب، وهي الحلقة المفقودة في البحث.
لا يمكن إنكار ما أورده الدكتور عرفة لكن بالرغم من أن ثقافة الاستهلاك والعولمة تنبع من المجتمع الغربي وتصب في وطننا العربي، إلا أننا نرى أن أفراد المجتمعات الغربية لم يهجروا الكتاب الورقي، ونرى الفرد يقرأ في كل الأماكن، ولا ترتبط مطالعته بالمكتبات والأماكن المخصصة للمطالعة، وهو ينتظر الحافلة، والسائق يقرأ خلف المقود بينما يحين موعد انطلاقه، بعض الفتيات يقرأن داخل المترو، وفي المسابح والمتنزهات، بينما الشعوب العربية نجدها في هذه الأوقات تمسك "بعدادة حسنات" لتحصي استغفاراتها وتكبيراتها وحمدها، أو متفاعلة تماما مع الدردشة الإلكترونية ووسائل التواصل. من ناحية ثانية، لا يمكن اعتبار غلاء الكتاب أحد أسباب الابتعاد عن القراءة أو غلاء تذكرة المسرح والسينما والأوبرا على الأقل في البلاد العربية ومن بينهم سورية على سبيل الحصر، لأن سعر تذكرة المسرح لم يكن يوماً مشكلة بالنسبة للفرد، وأغلبية العروض التي قدمت حتى هذا التاريخ مجانية تقريباً باستثناء المسرح التجاري، ونجد أن القائمين على أي عمل مسرحي يحاولون دفع نقود مع تذكرة الحضور فقط ليحضر جمهور. قد يقول قائل: إنها عروض لا ترتقي للمشاهدة حتى يحجم الجمهور عن حضورها، من الممكن أن تكون هناك عروض لا ترتقي لمستوى المشاهدة أو المشاهد المتخصص، لكن ليست كل العروض على سوية واحدة فهناك الجيد والوسط، ولا يمكن لأحد الحكم عليها قبل حضورها، لكن هناك ثغرة تجعل الشعوب تبتعد عن المسرح وأعتقد أن القائمين على المسرح هم المتهمون لأنهم مصرون على تقديم أعمال شكسبير وإبسن وغيرهما بلغة فصحى، بينما لو عدنا إلى مسرح الماغوط نجد الجميع يعشق حضوره رغم أنه يتكرر كل عام تقريبا على الشاشة الفضية، كما أنه لا يمكننا اعتبار سعر البطاقة هو السبب الذي حال بين الجمهور والنشاطات الفنية، لأن الجمهور ذاته يهرول لحضور حفل لزياد الرحباني أو مارسيل خليفة بمبلغ أعلى من ثمن تذكرة المسرح أو الأوبرا بعشرين مرة، ولا يمكنك أن تجد مكانا شاغراً.
نجد أيضاً أن الكتاب وفي مراحل كثيرة ما زال يسوّق بأبخس الأثمان سواء في مصر أو سوريا عبر مشاريع وخطط كانت الحكومات تضعها خلافاً لثمنه في الدول الأوربية، هنا لا يمكن الاستهتار بكل ما يقدم عن طريق الوزارات الرسمية ونشاهده في المعارض، وحتى لا نبالغ هناك ٢٠٪ من الكتب القيمة من إصدارات المؤسسات الرسمية وتقدمها الدولة بأسعار زهيدة وغير مؤدلجة أو موجهة، وهناك معارض لا تتوقف على مدار العام ومنح الراغبين بالتسوق والمطالعة حسم يصل إلى خمسين بالمائة، إضافة لمعارض كانت تمنح سبعين بالمائة، ومكتبات الرصيف التي نجد فيها الكتب القيمة، هنا لا ننفي ما أورده الدكتور عرفة في بحثه عن غلاء المعيشة بالنسبة للفرد عموماً وإن اعتبرنا أن اقتناء الكتاب مشكلة كان بإمكان الفرد أن يتخلص منها مسخراً التطور والمكتبات الافتراضية لخدمة ذاته الثقافية، أو يلجأ إلى بعض المراكز التي تعمل على مبدأ المطالعة الفورية أو الإعارة، لكن المشكلة تكمن في التسطيح الفكري للفرد العربي، وفي مقولة أن الثقافة لا تطعم خبزاً، المقولة التي كرستها الحكومات والمؤسسات الثقافية المعنية والتي ذكرها الباحث.